فوق من الوسم الهد المغلق -------------------------------------- -->

الأربعاء، 10 فبراير 2016

في ظﻻل القرآن سورة الحشر الآيات (18-24) لسيد قطب . .



الدرس السادس:18 - 20 الدعوة إلى التقوى والتحذير من النسيان وعدم استواء أصحاب النار وأصحاب الجنة 

وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه وربطه بالحقائق البعيدة المدى يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين , يهتف بهم باسم الإيمان , ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب , وتيسر عليهم الاستجابة لتوجيهه وتكليفه . يتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى . والنظر فيما أعدوه للآخرة , واليقظة الدائمة , والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل , ممن رأوا مصير فريق منهم , وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار:

)
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله , ولتنظر نفس ما قدمت لغد , واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون , ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم , أولئك هم الفاسقون . لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . أصحاب الجنة هم الفائزون). . 

والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله , ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها . حالة تجعل القلب يقظا حساسا شاعرا بالله في كل حالة . خائفا متحرجا مستحييا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها . وعين الله على كل قلب في كل لحظة . فمتى يأمن أن لا يراه ?!
(ولتنظر نفس ما قدمت لغد). . 

وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه . . ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته , ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته . لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة . . وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير , مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد . فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلا , ونصيبه من البر ضئيلا ? إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدا , ولا يكف عن النظر والتقليب !

ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع:
(واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). . 

فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء . .

والله خبير بما يعملون . .

وبمناسبة ما تدعوهم إليه هذه الآية من يقظة وتذكر يحذرهم في الآية التالية . من أن يكونوا (كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم). . وهي حالة عجيبة . ولكنها حقيقة . . فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى , وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى . وفي هذا نسيان لإنسانيته . وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى , وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر لها زادا للحياة الطويلة الباقية , ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد .
(أولئك هم الفاسقون). . المنحرفون الخارجون .

وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار , ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقا غير طريقهم وهم أصحاب الجنة . وطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار:

)
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة . أصحاب الجنة هم الفائزون). . 
لا يستويان طبيعة وحالا , ولا طريقا ولا سلوكا , ولا وجهة ولا مصيرا . فهما على مفرق طريقين لا يلتقيان أبدا في طريق . ولا يلتقيان أبدا في سمة . ولا يلتقيان أبدا في خطة . ولا يلتقيان أبدا في سياسة . ولا يلتقيان أبدا في صف واحد في دنيا ولا آخرة . .
(أصحاب الجنة هم الفائزون). . يثبت مصيرهم ويدع مصير أصحاب النار مسكوتا عنه . معروفا . وكأنه ضائع لا يعنى به التعبير
!

الدرس السابع:21 أثر القرآن على النفوس 

ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه ; وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه:
(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون)

وهي صورة تمثل حقيقة . فإن لهذا القرآن لثقلا وسلطانا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته . ولقد وجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما وجد , عندما سمع قارئا يقرأ: والطور , وكتاب مسطور , في رق منشور , والبيت المعمور , والسقف المرفوع , والبحر المسجور , إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع . . . فارتكن إلى الجدار . ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهرا مما ألم به !

واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا . ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام . أو أشد .

والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله). . والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي .
(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
). . 

وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكير
. .

الدرس الثامن:22 - 24 مجموعة من أسماء الله الحسنى وتسبيح الكون له 

وأخيرا تجيء تلك التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى ; وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله , ينطلق بها لسانه وتتجاوب بها أرجاؤه ; وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود وفي حركته وظواهره , فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها:

(هو الله الذي لا إله إلا هو , عالم الغيب والشهادة , هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو , الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر . سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور , له الأسماء الحسنى , يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) 

إنها تسبيحة مديدة بهذه الصفات المجيدة . ذات ثلاثة مقاطع . يبدأ كل مقطع منها بصفة التوحيد: (هو الله الذي لا إله إلا هو). .
أو (هو الله)
. .

ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ , وأثر في حياة البشر ملموس . فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات . فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء . وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود , وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده .
(هو الله الذي لا إله إلا هو). . فتتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد , ووحدانية العبادة , ووحدانية الاتجاه , ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه . ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفكير والشعور والسلوك , وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء . وارتباطات الناس بعضهم ببعض على أساس وحدانية الإله .
(عالم الغيب والشهادة). . فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور . ومن ثم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية ; ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقب من الله المراقب لله , الذي لا يعيش وحده , ولو كان في خلوة أو مناجاة ! ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام !
(هو الرحمن الرحيم)فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح . ويتعادل الخوف والرجاء , والفزع والطمأنينة . فالله في تصور المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم . ولا يريد الشر بهم بل يحب الهدى , ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء(هو الله الذي لا إله إلا هو). . يعيدها في أول التسبيحة التالية , لأنها القاعدة التي تقوم عليها سائر الصفات . .
(الملك). . فيستقر في الضمير أن لا ملك إلا الله الذي لا إله إلا هو . وإذا توحدت الملكية لم يبق للمملوكين إلا سيد واحد يتوجهون إليه , ولا يخدمون غيره . فالرجل لا يخدم سيدين في وقت واحد (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه). . 
(القدوس) وهو اسم يشع القداسة المطلقة والطهارة المطلقة . ويلقي في ضمير المؤمن هذا الإشعاع الطهور , فينظف قلبه هو ويطهره , ليصبح صالحا لتلقي فيوض الملك القدوس , والتسبيح له والتقديس .
(السلام). . وهو اسم كذلك يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود , وفي قلب المؤمن تجاه ربه . فهو آمن في جواره , سالم في كنفه . وحيال هذا الوجود وأهله من الأحياء والأشياء . ويؤوب القلب من هذا الاسم بالسلام والراحة والاطمئنان . وقد هدأت شرته وسكن بلباله وجنح إلى الموادعة والسلام .
(المؤمن) واهب الأمن وواهب الإيمان . ولفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان , حيث يلتقي فيه بالله , ويتصف منه بإحدى صفات الله . ويرتفع إذن إلى الملأ الأعلى بصفة الإيمان .
(المهيمن). . وهذا بدء صفحة أخرى في تصور صفة الله - سبحانه - إذ كانت الصفات السابقة: (القدوس السلام المؤمن) صفات تتعلق مجردة بذات الله . فأما هذه فتتعلق بذات الله فاعلة في الكون والناس . توحي بالسلطان والرقابة .

وكذلك: (العزيز . الجبار . المتكبر). . فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء . فلا عزيز إلا هو . ولا جبار إلا هو . ولا متكبر إلا هو . وما يشاركه أحد في صفاته هذه . وما يتصف بها سواه . فهو المتفرد بها بلا شريك .

ومن ثم يجيء ختام الآية: (سبحان الله عما يشركون). . 

ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة .
(هو الله). . فهي الألوهية الواحدة . وليس غيره بإله .
(الخالق). .(البارئ). . والخلق:التصميم والتقدير . والبرء:التنفيذ والإخراج , فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق . .
(المصور). وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها . ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة .

وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق , يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة - حسب التصور الإنساني - فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات . وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله . إنما نحن ندرك شيئا من آثارها هو الذي نعرفها به في حدود طاقاتنا الصغيرة !
(له الأسماء الحسنى). . الحسنى في ذاتها . بلا حاجة إلى استحسان من الخلق ولا توقف على استحسانهم .

والحسنى التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها . وهي الأسماء التي يتدبرها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها , إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف بها . وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها .

وخاتمة هذه التسبيحة المديدة بهذه الأسماء الحسنى , والسبحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضها العجيبة , هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود , وينبعث من كل موجود:

يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم . .

وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء ; ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء . . كما يتلاقى فيه المطلع والختام . في تناسق والتئام .


تعليقات فيسبوك
0 تعليقات بلوجر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

إتصل بنا

الإسم الكريم البريد الإلكتروني مهم الرسالة مهم